الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهذه الحادثة قبلها بسنة وستة أشهر وما كانت إلا لظهور الإسلام وعلوه وفاقا لما هو عند الله أزلا بأن الإسلام يفشو بالمدينة قبل مكة بسنتين، ومن هنا يظهر قول عيسى عليه السلام (ألحق أقول لكم أن لا يكون نبي في قومه) فرجعنا إلى مضاجعنا وكان وقت السحر من اليوم الثاني من ذي الحجة سنة 52 من ميلاده الشريف الثانية عشرة من البعثة العظيمة، فصابحوهم أجلة قريش وقالوا يا معشر الخزرج بلغنا أنكم بايعتم صاحبنا على حربنا، وإنا والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن ينشب الحرب بيننا وبينه منكم، قال كعب بن مالك فانبعث بعض المشركين من قومنا يحلفون بالله ما كان شيء من هذا وما علمناه أبدا، فصدقوا لأنهم لم يعلموا بالمبايعة، ولو علموا لما اعتذروا لأنهم لا يخافون من قلة عدد أو وهن عدد، قال وكان بعضنا ينظر إلى بعض، فقاموا ورجعوا ووقانا الله من الكلام، ولولا أن سخّر الله بعض مشركيهم وحلفوا على نفي ما سمعوا وهم صادقون لصدقوا ما سمعوا به ولوقع ما وقع.وهذا أول خير رأوه من بيعة حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم، ثم انصرف الأنصار إلى المدينة وأظهروا فيها الإسلام.وبلغ ذلك قريشا فآذوا أصحاب رسول الله، فقال لهم حضرة الرسول إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها وأمرهم بالهجرة إلى المدينة، وأول من هاجر أبو أسامة بن عبد الأسد المخزومي، ثم عامر ابن ربيعة، ثم عبد الله بن جحش، ثم تتابعوا حتى هاجر رسول الله على الصورة المبينة في الآية 44 من سورة العنكبوت، ودخل المدينة يوم الاثنين في 12 ربيع الأول سنة 13 من البعثة، وجمع الله شملهم، وأزال الضغائن من بينهم بسببه صلّى الله عليه وسلم وذلك قوله: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا} بعد حروب دامت مائة وعشرين سنة بين الأوس والخزرج.
إلى أن قال: كما أن ابيضاض وجه المؤمنين يحصل من السرور العظيم الذي يرونه فتبتهج وتنبسط، وقيل في المعنى: وقال غيره: وفي هذا البيت اكتساب المضاف التأنيث من المضاف اليه كما في قوله: وقد يكتسب التذكير أيضا كما في قوله: تحذر هذه الآية الناس عاقبة أمرهم إذا هم لم يقوموا بأوامر الله تعالى بما ذكر ألا فليقلع الناس عما هم عليه قبل حلول الأجل وليزداد الطائعون طاعة لينالوا ما وعدهم الله به من الخير.هذا ولما قال مالك بن الصيفي ووهب بن يهوذا اليهوديان لعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة نحن أفضل منكم، أنزل الله تعالى على رسوله خطابا له ولأمته قوله جل قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله} ولهذا وصفتم بالأخيرية على غيركم من الأمم {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ} كإيمانكم بمحمد وكتابه {لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ} من الإصرار على ما هم عليه الذي يؤدي بهم إلى شر العاقبة وليس كل أهل الكتاب على ضلال {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} كالنجاشي وأصحابه من النصارى الذين آمنوا قبلا وعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود المتوقع إيمانهم، لأنهم يصدقون الرسول ويؤمنون بكتابه ويميلون للإسلام، وهؤلاء آمنوا بعد نزول هذه الآيات كما سيأتي في الآية 17 من سورة النساء {وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110)} ويدخل في هذا الخطاب جميع الأمة المحمدية أولها وآخرها إلى قيام الساعة بحسب معناها على أنه إذا كان المخاطب به محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فهو على حد قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} الآية 14 من البقرة ونحوه فإنه خطاب عام يشمل الكل وإن كان بحسب اللفظ للحاضرين فقط، روى نهر بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} إلخ قال أنتم تتممون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله- أخرجه الترمذي- وفي حديث آخر افترقت الأمم إلى اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا ما أنا عليه وأصحابي وهنا سبعون باعتبار بعض الأمم تضم فرقا أخرى، وكان هنا ناقصة تدل على تحقيق الشيء بصفته في الزمان الماضي من غير دلالة على عدم سابق أو لا حق، وتحمل تارة على الانقطاع كما في قولك كان التمر موجودا، والرجل قائما، وطورا على الدوام كقولك كان البر محمودا، وكان ربك رحيما، ومنه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} الآية، ولها ارتباط بالآيات قبلها، وقد سبق بيان المعروف الذي تتسابق إليه النفوس الطيبة وتتسارع له ذوو المروءات والشهامة، وملاك الأمر فيه محصور في قوله صلّى الله عليه وسلم: (التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله) لأنه إما أن يكون لواجب الوجود لذاته وهو الله جل شأنه ولا معروف أشرف من تعظيمه وإظهار عبوديته والخضوع لأمره والخشوع لجنابه والاقنات لباب عزته والاعتراف بكونه موصوفا بصفات الكمال مبرأ عن النقائص أو للمكنى بذاته، وهو إما أن يكون حيوانا فيجب إظهار الشفقة عليه بغاية ما يقدر عليه إنسانا كان أو غيره، وإذا كان جمادا فعلى العاقل أيضا أن ينظر إليه بعين التعظيم من حيث أنه مخلوق للّه، لأن كل ذرة من ذرات الوجود فيها سرّ وحكمة للّه تعالى ودليل على وجوده وبرهان على توحيده، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} الآية 45 من الإسراء وقال أمية بن الصلت: ففعل المعروف لكل بما يناسبه معروف عند الله وتسر النفس بفعله إذا كانت طيبة طاهرة، وللّه در القائل: هذا إذا فعله لسلمى، فكيف إذا فعله لربها، فإنه يذكره في ملئه الأعلى، وشتان بين هذا وذاك، فالسعيد من يصرف عمله وماله وجاهه في مرضاة الله، والشقي من يعكس، وكل ميسر لما خلق له، قال: هذا إذا رافقته عناية الله، وإلا فكما قال: روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «خير الناس قرني (أي الزمن الذي هو فيه وهو ما بين الثلاثة والثلاثين سنة والمائة) ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».قال عمران لا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة: «ثم إن بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن».زاد في رواية: «ويحلفون ولا يستحلفون».ورويا عن ابن مسعود: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم تجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته». وذلك لقلة يقينهم وضعف دينهم وعدم مبالاتهم في الزور والعياذ بالله، ولذلك قال الفقهاء: من شهد قبل أن يستشهد لا تقبل شهادته، أي لما فيها من التهمة بسبب تسابقه عليها، أما إذا كان لديه شهادة لصاحب حق لا يعرفه كقاصر أو غائب فعليه أن يخبر صاحب الحق بذلك ليشهد له عند الاقتضاء، وهذا لا يدخل في الحديثين المارين، بل هو مأجور لما فيه من إظهار الحق، راجع الآية 282 من سورة البقرة المارة.ورويا عن أبي سعيد الخدري، قال: قال صلّى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه».هذا ولما عمد اليهود إلى ضر المؤمنين وصاروا يتداولون في إساءتهم ووقع في قلوب المؤمنين شيء من الرهب لما يعلمون من كيدهم ومكرهم أنزل الله تطمينا لهم قوله جل وعلا {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} هو ما يقع من بذاءة لسانهم من الشتم والتهديد والطعن في الدين {وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ} لا يقدرون عليكم، لأن الله ألقى الرعب في قلوبهم منكم، ولذلك فإنهم إذا أقدموا على قتالكم {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ} يهربون أمامكم خوفا منكم ويخذلون بنصرة الله لكم {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111)} عليكم أبدا، وذلك لأنهم {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} من الله فصاروا يتوقعون القتل والسبي والجلاء، ووقع عليهم الصغار والهوان بضرب الجزية عليهم {أَيْنَما ثُقِفُوا} وجدوا وقبضوا ولم يأمنوا منكم {إِلَّا بِحَبْلٍ} عهد وذمة وأمان {مِنَ الله وَحَبْلٍ} أمان وذمة {مِنَ النَّاسِ} أي المؤمنين {وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ الله} استوجبوه بسوء فعلهم ورجعوا به وأملوا أنفسهم فيه {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} خوف الفقر مع اليسار وخوف الفزع مع الأمن {ذلِكَ} الغضب والذلة والمسكنة {بأنهمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ الله وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ} الكفر والقتل {بِما عَصَوْا} الله وخالفوا أمره وتعاليم رسله وجحدوا كتابه {وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)} على أنفسهم وعلى غيرهم ويتجاوزون حدود ربهم.
|